التشيع كمذهب ليس جديداً فيما يعرف اليوم بالمنطقة الشرقية في المملكة ((الاحساء والقطيف))، باتفاق جميع من ارّخ لها من الماضين والمعاصرين، ولكنهم اختلفوا في تحديد المدّة التي دخلها التشيّع، هل في عهد الرسول صلى الله عليه وآله أم في عهد الإمام علي بن أبي طالب، حيث يرى الشيعة ان التشيّع كان معروفا في عهد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأن العديد من الصحابة عرفوا بموالاتهم للإمام علي، ويعتقدون أن أوّل من بذر بذور التشيّع فيما عرف قديما بمنطقة البحرين، والتي كان تشمل (أوال والخط وهجر، والمعروفة اليوم بإسم البحرين والقطيف والأحساء على التوالي).. هو الصحابي الجليل أبان بن سعيد بن العاص الأموي، الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله البحرين مسئولا عن بيت المال، وكان أبان من الموالين للإمام علي، فغرس بذور التشيّع في المنطقة، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله لم يبايع أبان أبا بكر بالخلافة حتى بايع الإمام علي نفسه، وتشير بعض الروايات التاريخية إلى ان سبب عزل أبان عن منصبه بعد وفاة الرسول مباشرة يعود، إلى موقفه هذا.
بيد أن المؤرخين الآخرين يقولون بأن التشيّع لم يكن معروفاً حتى خلافة علي ابن ابي طالب، وان منطقة البحرين ((القديمة)) إعتنقت التشيع في عهده، وانها شاركت الامام في حروبه كلها (الجمل وصفين والنهروان).
وأياً كان الامر، فان التشيع ليس جديدا على هذه المنطقة، وانما عمره يزيد على اربعة عشر قرنا، ويثبت المؤرخون لهذه المنطقة ان رجالها من الصحابة والتابعين والشعراء كانوا من الشيعة، وهم اكثر من ان يذكروا.
منهم على سبيل المثال: الصحابي الجليل حُكيم بن جبلة العبدي، وقد تولّى امارة السند في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكان مشهورا بالشجاعة والولاء، واستشهد في معركة الجمل (الاصغر) هو وابنه، واتباعهما بعد ان رفضوا نزع البيعة من الامام، وقد ذكره الامام علي في تبرير قتاله للخارجين عليه بقوله: ((.. قتلوا شيعتي، وقتلوا أخا ربيعة العبدي، رحمة الله عليه في عصابة من المسلمين، قالوا لا ننكث كما نكثتم، ولا نغدر كما غدرتم، فوثبوا عليهم فقتلوهم ـ إلى أن قال ـ فقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي، ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي، فقتلتهم بهم.
ومن رجال الشيعة الذين نبغوا من هذه المنطقة، زيد بن صوحان العبدي، وقد قُتل يوم الجمل، وكان أحد سادات الشيعة في المنطقة، وسبق أن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ((زيد ما زيد؟! تسبقه يده إلى الجنّة ثم يتبعها جسده)).. فكان كما قال صلى الله عليه وآله.. وقد وقف الإمام علي عليه عند مقتله وفيه رمق، فقال: رحمك الله يا زيد، فلقد كنت خفيف المؤونة، كثير المعونة. فرفع زيد رأسه وقال: وأنت رحمك الله يا أمير المؤمنين، ما علمتك إلا بالله عليما، وفي أم الكتاب عليّاً حكيماً، وأن الله في صدرك لعظيم، والله ما قاتلت معك على جهالة، ولكني سمعت أم سلمة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، فكرهت أن أخذلك فيخذلني الله تعالى.
ومن الصحابة، صعصعة بن صوحان العبدي، أسلم على عهد رسول الله، وكان من سادات عبد القيس وخطبائهم المفوهين، قاتل مع الامام علي في معاركه، واستشهد اخواه سيحان وزيد في الجمل، توفي في عهد معاوية وقيل ان الاخير قتله غيلة.
ومنهم التابعي صحار بن العياش العبدي، شهد مع الامام علي جملة مواقعه.. وكذلك حويرثة بن سميّ العبدي، وقدامة بن مسروق العبدي الذي استشهد مع الامام علي في صفين.. ومنهم الصحابي الجليل عمرو بن المرجوم العبدي، كان ابوه احد رؤساء عبد القيس في الجاهلية، قاتل مع الامام في الجمل وصفين، وكان من أوائل المجيبين لدعوة الامام لقتال معاوية، كانت له وقفة مشهودة قال فيها مخاطبا الإمام علي ((وفق الله أمير المؤمنين، وجمع له أمر المسلمين، ولعن المحلّين القاسطين، الذين لا يقرأون القرآن، نحن والله عليهم حنقون، ولهم في الله مفارقون، فمتى أردتنا صحبك خيلنا ورجلنا)).
ومنهم الحارث بن منصور العبدي الذي شهد صفين مع الامام علي، والحارث بن مرّة العبدي، الذي كان قائد الميسرة في صفين، وهو الذي غزا الهند سنة 39هـ بعد ان استأذن الإمام في ذلك.
ويذكر المؤرخون أن قبائل الشيعة في البحرين (الاحساء والقطيف والبحرين الحالية)، وهي قبائل ربيعة (عبد القيس وبكر بن وائل)، كانت من أشد الانصار لعلي، ولذلك كان يعتمد عليها في حروبه اكثر من أي قبيلة أخرى.. وذكروا ان الامام علي كان لا يعدل بها أحداً من الناس، كما كان كثير الثناء عليها، ومن جملة مديحه لها في صفين قوله لرؤسائها: أنتم درعي ورمحي.. أنتم انصاري ومجيبو دعوتي، ومن أوثق حيّ في العرب في نفسي.. ووصف الإمام علي رايات ربيعة (عبد القيس وبكر بن وائل تحديداً) بأنها رايات الله.. وكان الإمام قد رأى رأيات خفاقة فقال: لمن هذه الرايات؟ فقالوا: هذه رايات ربيعة. فقال: بل هي رايات الله، عصم الله أهلها وصبّرهم وثبّت اقدامهم.. وفي صفين أُعجب الإمام بزحف حامل راية ربيعة الحمراء (الحضين بن منذر) فقال:
لَمَن راية حـمراء يـخفق ظلّها
ويدنو بها في الصفّ كيما يديرها
إذا قيل قدّمها حضين تقدّما
حمام المنايا تقطر الموت والدما
وليس هناك من شكّ في أن الغالبيّة العظمى ـ على الأقل ـ من سكان الاحساء والقطيف كما البحرين الحالية، كانوا شيعة موالين لأهل البيت منذ عهد الإمام علي، وقد استمرّ تشبّثهم بولائهم هذا بعد وفاة الامام وسيطرة الامويين على الحكم والذين حاولوا ترسيخ اقدامهم في المنطقة، الا انهم فشلوا في ذلك لكثرة المناوئين لهم، ولنزوح الكثير من المعارضين للحكم الاموي إلى تلك المنطقة سواء من الحجاز أو من العراق أو غيرها.. ومن الثابت ان منطقتي الاحساء والقطيف كانتا بؤرة معارضة للدولة الأموية حتى إنحلالها واستيلاء العباسيين على الخلافة.
وكما حدث للأمويين، فان العباسيين اهملوا اقليم البحرين لاضطرابه، وكانت ولايتهم عليه إسمية، وقد اتخذ العباسيون المنطقة منفى للمعارضين، ربما لكثرة المعارضة فيها، ولم يكن لهذه المنطقة في نهاية القرن الثالث الهجري أي علاقة بالخلافة العباسية.
وفي هذه الفترة سيطر القرامطة على المنطقة، وأمعنوا في الشيعة قتلاً وتحريقاً على النحو الذي وصفه شاعر الشيعة ابن المقرب العيوني:
وحرقوا عبد قيس في ديارهم
وصيروا الغرّ من ساداتها حمماواستطاع العيونيون الشيعة في سنة 466هـ إنهاء حكم القرامطة والاجهاز عليهم، وحكموا المنطقة نحو 170 عاماً.
وإلى هنا فان معظم سكان المنطقة من الشيعة، وقد بقوا كذلك في عهد الدويلات المتعاقبة كبني عقيل وآل عصفور وآل جروان وآل جبر وآل مغامس.. وحين زار ابن بطوطة المنطقة لاحظ شيعيتها ـ بغضّ النظر عن موقفه المذهبي المعادي ـ، فقد قال: ((ثم سافرنا إلى مدينة القطيف، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير، يسكنها طوائف العرب، وهم رافضية غلاة، يظهرون الرفض جهاراً لا يتّقون أحداً ، ويقول مؤذنهم في اذانه بعد الشهادتين: اشهد أن علياً وليّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين: حيّ على خير العمل.. ويزيد بعد التكبير الأخير ـ أي بعد الانتهاه من الأذان: محمد وعليّ خير البشر، من خالفهما فقد كفر)) .
كما اشار ابن بطوطة إلى هجر فقال ان بها من النخيل ما ليس ببلد سواها، وان اهلها عرب، اكثرهم من قبيلة عبد القيس ابن افصى.
بعد هذا سيطر البرتغاليون على المنطقة في أول استعمار غربي صليبي لمنطقة الخليج، فاستنجد الشيعة بالعثمانيين رغم الخلاف المذهبي، فكانت لهم الغلبة وحكموا المنطقة من سنة 960هـ إلى سنة 1080 هـ، حيث استطاعت قبيلة بني خالد القوية ان تنهي الحكم العثماني وتحكم المنطقة حتى سنة 1207 هـ. وفي عهد الخوالد هذا، وبعد ان فرضوا حكمهم بالعنف في بدايته، اندمجوا مع الشيعة، وتحوّلت كثير من افرع قبيلتهم إلى جماعات مستقرة تعتنق المذهب الشيعي.
ومنذ عهد السعوديين الذي بدأ سنة 1207هـ، وحتى سنة 1233هـ، بقي العنصر الشيعي مؤثراً سكانيا واقتصاديا، واستمر هذا الحال طوال العهد المصري ثم السعودي الثاني، حتى عودة العثمانيين ثانية إلى المنطقة سنة 1288هـ وحكمهم لها اكثر من اربعين عاما وبالتحديد حتى عام 1331هـ، أي إلى ان اجلاهم الملك عبد العزيز عنها.. طيلة هذه السنين كانت الغلبة السكانية لصالح الشيعة حتى الوقت الحاضر.
وملخص القول ان التشيّع كان ولا يزال المذهب الاول في المنطقة، منذ دخول الإسلام اليها وحتى اليوم.. ولا صحّة للاقوال المغرضة التي تقول بأن التشيّع انتشر أو وفد من ايران، بل ان الصحيح عكس ذلك.. فأهل هذه المنطقة كانوا عنصراً هاماً في فتوحات فارس، وكانت الهجرة منهم إليها وليس العكس، فضلا عن أن المذهب السنّي كان هو المذهب الرسمي في ايران قبل قيام الدولة الصفوية، أي ان عمر التشيّع في ايران لم يزد عن خمسة قرون.
في الجانب الأدبي برز من قبائل الشيعة الكثير من الشعراء، وظهرت في اشعارهم مسحة التشيّع لأهل البيت، نذكر منهم:
الأعور الشني (بشر بن منقذ العبدي): وكان أحد أهم شعراء الإمام علي في الجمل وصفين، قال بعد حرب الجمل محرّضاً الإمام على قتال معاوية:
قُـلْ لـهذا الإمـام قد خَبَت الحر
وفرغنا من حرب مَنْ نقضَ العهـ
تنفثُ السمّ ما لِمَن نهشتهُ
إنّه والذي يحجّ له النا
لضعيفُ النخاع إن رُميَ اليـ
جانحاتٍ تحتَ العـجاج سـخالاً
تتبارى بكلّ أصيدَ كالفحـ
ثمّ لا ينثني الحـديـدُ و لـمّا
إنْ تذرهُ فما مـعاويةُ الدّ
ولنيلُ السماك اقرب من ذا
فاضربِ الحدّ والحديد إليه
بُ وتمّت بذلك النَعماء
ـدَ وبالشامِ حيّة صمّاءُ
فارمها قبل أن تعضّ شفاءُ
سُ و من دون بيتهِ البيداءُ
ـومَ بخيلٍ كأنّها الأشلاء
مجهضاتٍ تـخالها الأسلاء
ـلِ بـكفّيه صعدةٌ سمراءُ
يخضبُ العاملين منها الدماءُ
هر بمعطيك ما اراك تشاءُ
ونجمُ العيّوقِ و العوّاءُ
ليس و الله غير ذاكَ دواءُوجاء الأعور الشني إلى الإمام في صفين وقال له: ((زاد الله في هداك وسرورك، نظرت بنور الله فقدّمت رجالاً وأخّرت رجالاً، فعليك أن تقول وعلينا أن نفعل، أنت الإمام، فان هلكت فهذان من بعدك ـ يعني الحسن والحسين ـ، وقد قلتُ شيئاً فاسمعه)). قال الإمام: هات. فأنشد الشاعر:
أبا حسن أنتَ شمسُ النهار
وأنتَ وهذان حتى الممات
وأنتم أُناسُ لكم سورةٌ
يخبّرنا الناس عن فضلكم
عقدتُ لقوم ذوي نجدةٍ
.. ضربناهمُ قبل نصف النهارِ
ولم يأخذ الضربُ إلا الرؤوسَ
فنحنُ أولئك في أمسنا
وهذان في الحادثات القمر
بمنزلة السمع بعدَ البصر
يقصّر عنها أكفّ البشر
وفضلكم اليوم فوق الخبر
من أهل الحياء وأهل الخطر
إلى الليل حتى قضينا الوطر
ولم يأخذ الطعنُ إلاّ الثّغَر
ونحنُ كذلك فيما غَبَروقال مفاخراً بربيعة التي ينتمي إليها مبدياً إعتزازه بمديح الإمام علي لها، واعتماده عليها:
أتانا أميرُ المؤمنين فحسبنا
على حين أن زلّت بنا النعلُ زلّةً
وقد أكلت منّا ومنهم فوارساً
وكنّا له في ذلك اليوم جنّةً
فأثنى ثناءُ لم يرَ الناسُ مثلهوهجا في صفين أحد أعدائه فقال:
ما زلتَ تنظرُ في عطفيكَ أبّهةُ
لا تحسبُ القومَ الا فقع قرقرةٍ
حتى لقيت ابن مخرومٍ وأي فتى
.. لما رأيتهمُ صُحباً حسبتهم
ناديت خيلك إذ عض الثقاف بهم:
هلاً عطفت على قتلى مصرّعة
قد كنتَ في منظر من ذا ومُستَمَعٍ
فاليوم يُقرعُ منك السّنّ عن ندمٍ
على الناس طرّاً أجمعينُ بها فضلا
ولم تترك الحربُ العوانُ لنا فحلا
كما تأكلُ النيرانُ ذا الحطب الجزلا
وكنُا له من دون انفسنا نعلا
على قومنا طرّاً وكنّا له أهلا
لا يرفعُ الطرف منك التّيهُ والصّلفُ
أو شحمةً بزّها شاوٍ له نطفُ
أحيا مآثر آباءٍ له سلفوا
أسدُ العرين حمى أشباله الغُرُف
خيلي إليّ، فما عاجوا ولا عطفوا
منها السكونُ ومنها الأزدُ والصدفُ
يا عُتبُ لو لا سفاهُ الرأي والسرفُ
ما للمبارز إلا العجز والنّصَفُوكان الشني من الرافضين للتحكيم، كما كان رافضاً أن يكون الأشعري هو ممثل جيش الإمام، وحين أُجبر الإمام علي على قبول أبي موسى الأشعري، قال الشني ساخطاً وساخراً من شريح بن هاني الذي تولى تجهيز أبي موسى:
زَفَفتَ ابن قيس زفافَ العروس
وفي زفّكَ الأشعري البلاءْ
وما الاشعري بذي إربةٍ
ولا أخذاً حظ أهل العراق
يحاول عمراً وعمروّ له
فان يحكما بالهدى يُتبعا
يكونا كتيسين في قفرةٍ
شريحُ إلى دُومةِ الجندلِ
وما يُقضَ من حادثٍ ينزلِ
ولا صاحب الخطبة الفيصلِ
ولو قيل ها خُذهُ لم يفعلِ
خدائع يأتي بها من علِ
وإن يحكما بالهوى الأميلِِ
أكيلي نقيفٍ من الحنظلِ
وفشا في الناس أن ابا موسى سيخلع الإمام علي قبل أن يصل دومة الجندل، فأرسل له الأعور الشني راكباً ومعه هذه الأبيات:
أبا موسى جزاك الله خيراً
وإن الشام قد نصبوا إماماً
وإنّا لا نزال لهم عدواً
فلا تجعل معاوية بن حربٍ
.. ولا تحكم بأن سوى عليٍ
عراقك إن حظّك في العراقِ
من الأحزابِ معروف النفاق
أبا موسى إلى يومِ التلاقي
إماماً ما مشت قدمٌ بساقِ
إماماً، إنّ هذا الشرّ باقِ
وجاءت النتيجة المتوقّعة من التحكيم، ورجع وفد الإمام علي إلى الكوفة مكتئباً، فقال الشني متألّماً:
ألّمْ تر أن الله يقضي بحكمهِ
وليسا بمهدَي أمّة من ضلالةٍ
أثارا لما في النفس من كلّ حاجةٍ
أصمّان عن صوتِ المنادي تراهما
وعمروٌ وعبد الله يختلفان
بدرماء سخما فتنةٍ عَميان
شديدانِ ضرّاران مؤتلفانِ
على دارة بيضاء يعتلجان
وهناك شعر كثير للأعور الشني، الذي يعدّ من فحول الشعراء.
الصلتان العبدي: وإسمه قثم بن خبيئة من بني محارب من عبد القيس.. كان من شيعة الإمام علي، وقد رافقه في حروبه، كالجمل وصفين، كما كان أحد شعرائه المشهورين في تلك المعارك.
من شعره في صفين، هجاؤه لأحد أعدائه بعد أن وسّدته السيوف الثرى:
ألا يا عُبيد الله ما زلت مولعاً
كانّ حماة الحيّ من بكر وائل
وكنت سفيها قد تعودت عادة
فأصبحت مصلوبا على شر آلةٍ
تشق عليك الجيب ابنةُ هانئ
وكانت ترى ذا الأمر قبل عيانهِ
وقالت: عُبيد الله لا تأتِ وائلا
فقد جاء ما منّيتها فتسلّبت
حباك أخو الهيجا حُريث بن جابرٍ
وقال في التحكيم:
لعمرُك لا أُلفي مدى الدّهر خالعاً
فان يحكما بالحقّ نقبلْه منهما
ولسنا نقول الدّهرَ ذاك اليهما
وما اليوم إلاّ مثلُ أمس وإننا
وللصلتان شعرٌ يفيض حكمة، يقول:
أشابَ الصغيرَ وأفنى الكبير
إذا هزمت ليلة يومها
نروحُ ونغدو لحاجاتنا
تموت مع المرء حاجاته
.. بُنيّ بدا خبء نجوى الرجال
وسرّك ما كان عند امرئٍ
كما الصمت أدنى لبعض الرشاد
ببكرٍ لها تُهدي اللغا والتهدّدا
بذي الرّمث أسدٌ قد تبوّأن غرقدا
وكل امرىءٍ جار على ما تعوّدا
صريع قناً بين العجاجة مُفردا
مسلّبة تبدي الّجا والتلدّدا
ولكن أمرَ الله أهدى لك الردى
فقلت لها: لا تعجلي وانظري غدا
عليك وأمسى الجيبُ منها مقدّدا
بجيّاشةٍ تحكي الهديرَ المندّدا
علياً بقول الأشعريّ ولا عمرو
وإلا أثرناها كراغية البكر
وفي ذاك لو قُلناهُ قاصمةُ الظهر
لفي وَشَلِ الضحضاحِ إو لُجَةِ البحرِ
مرور الغداةِ وكرّ العشي
أتى بعد ذلك يومُ فتي
وحاجة من عاش لا تنقضي
وتبقى له حاجة ما بقي
فكن عند سرّك خبء النّجي
وسرّ الثلاثة غير الخفي
وبعض التكلّم أدنى لعي
وقال في تحكيمه بين الفرزدق وجرير:
فان كنتما حكمتماني فانصتا
فان ترضيا أو تجزعا لا آفلكما
فان يكُ بحر الحنظليين واحداً
وما يستوي صدر القناة وزجّها
وليس الذنابى كالقدامى وريشها
ألا إنما تحظى كليب بشعرها
ولا تجزعا وليرض بالحق قانعُ
وللحق بين الناس راضٍ وجازعُ
فما تستوي حيتانه والضفادعُ
وما يستوي شمّ الذرى والأكارعُ
وما تستوي في الكفَ منك الأصابعُ
وبالمجد تحظى دارمُ والأقارعُ
زياد الأعجم: سكن إصطخر فغلبت العُجْمِةُ لسانه، عاش حتى أواخر الحكم الأموي، مدح العباسيين في البداية ثم عاد فهجاهم بعد أن نكلوا بآل البيت الذين أخذو الحكم باسمهم، وقال:
يا ليت جور بني مروان دام لنا
وليت عدل بني العباس في النار
قيل أن الفرزدق أراد هجاء عبد القيس، فبعث له زياد بأبيات جعلته يتراجع، منها:
وما ترك الهاجون لي إن هجوته
ولا تركوا عظماً يرى تحت لحمه
سأكسر ما أبقوه لي من عظامه
وإنّا وما تهدي لنا إن هجوتنا
مصحاً أراه في أديم الفرزدق
لكاسره أبقوه للمتعرّق
وأنكث مخ الساق منه وانتقي
لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
محمد بن ثمامة العبدي: عاصر العهد الأموي، ومن شعره:
اتزعم أنني أهوى خليلاً
جحدتُ إذاً موالاتي علياً
سواك على دنوٍ أو بعاد
وقلتُ بأنني مولى زياد
يحيى بن بلال العبدي: عاش في صدر الدولة العباسية، من شعره:
أما الدعاة إلى الجنانِ فهاشمُ
أأميّ مالك من قرار فالحقي
فلئن رحلتِ لترحلن ذميمة
وبنو أميّة من دعاة النار
بالجن صاغرة بأرض بوار
وإذا اقمت بذلّة وصَغارِ
الأمير علي بن المقرّب العيوني: ومن شعره في مديح تاج الدين إسماعيل العلوي:
أباؤه من قريش خيرها حسباً
الضاربون الطلى والهامَ ضاحيةُ
والطاعنو الخيل شزراً كلّ نافذة
والموقدون إذا نارُ القرى خَمَدَت
قومُ لهم ذروة العلياء يعرفها
عافوا الظواهر من أُم القرى وبنوا
وأصبحت كعبة الله الحرامُ وقد
سادوا قريشاً عُلاً في جاهليتها
وكلّ علياء في الإسلام فهي بهم
يا منْ يسامي إلى مجدٍ بني حسن
قبيلة من رسول الله عُنصرها
إن القروم السوامي من بني حسنٍ
وعزّ حاضرها فيهم وباديها
في الحرب حين يهزّ الحربَ جانيها
نجلاء تبرقُ منها عينُ آسيها
وعامَ بين اللقاح الخُور راعيها
داني معدّ إذا عُدّت وقاصيها
أبياتهم عزّةُ في سرّ واديها
أضحتْ ومنهم برغم الخصم واليها
ومَنْ يُسامي قريشاً أو يباريها
تُبنى وقطب الرحى منهم وهاديها
عدمتَ رشدك هل خلقٌ يساميها
ومن عليّ فتى الدنيا ومُفتيها
يُحصى الترابُ ولا تُحصى أياديها
الشيخ جعفر بن محمد بن حسن العبدي الخطي (المعروف بأبي البحر) ومن شعره في وطنه القطيف:
إن القطيف وإن كَلِفْت بحبها
إذ إين جزت رأيت فيها مدرجي
لأجلَ ملتمسي وغاية منيتي
فسقى الغمام إذا تحمل ركبه
وعَلّت على استيطانها زفراتي
طفلاً وأترابي بها ولداتي
أني أقيم بتلكم الساحات
تلك الرحاب الفيح والعرصات
وهزل الشيخ ابو البحر مرة بشاعر قطيفي سنة 1007هـ فقال:
يا خليليّ من ذوابة شيبا
إن هذا الفتى الذي وسم الشعر
قد نضا مدية الجهالة يفري
يا حماة القريض هبّوا لأخذ
وخذوا بالترات من قاتل الشعر
لاك في فيه شحمة الشعر من لم
وأدّعى رتبة البلاغة في القول
ن ويدعى لما ينوب الخليل
بعار ما أن نراه يزول
ودَجَ الفضل فهو منه قتيل
الثار فالخطب لو علمتم جليل
فما الحزم أن تضاع الذحول
يدرِ ما فاعل ولا مفعول
غبيّ لم يدرِ ((أيش)) يقول
ورثى شيخ القطيف الأكبر أبو علي عبد الله بن ناصر بن مقلد من بني وايل، فقال:
أكفّ البرايا من تراثهم صفرُ
وخيل الرزايا ما تزال معدّة
تكرّ علينا البيض والسمر بالردى
.. خليليّ من أبناء بكر ووائل
وبدراً تراءى للنواظر فاهتدت
وعضباً ثنت أيدي النوائب حدّه
أرامي الردى أخطاتنا واصبته
وبيض المنايا من دمائهم حمرُ
تقاتلنا فرسانها ولها النصرُ
فتبلغ ما لا تبلغ البيض والسمرً
قفا واندبا شيخاً به فُجعت بكرُ
به برهة ثم اختفى ذلك البدر
فهلاّ اعتراها من مضاربه عقر
أسأت لنا جذّت أناملك العشرُ
الشيخ فرج الخطي: من أعلام القرن الثاني عشر الهجري، ومن شعره:
هلاّ شممتَ روائح التفاحِ
ورأيتَ نور الله يشرقُ عندهُ
وبكيتَ مصرعهُ المهول بلوعةٍ
وسهرت ليلك باكياً لمصابه
خطبُ إذا استشعرت أيسر أمره
إنّي لأعجب عند ذكر خطيرهِ
سَحَراً بقبّة خامس الأشباحِ
كالشمس يخمد نيّر المصباح
تفري العيون بدمعها السفّاحِ
وشكوت ذاك لفالق الإصباحِ
عسرت عليّ مسالك الأفراحِ
لتعلّق الأبدان بالأرواح
الشيخ حسن التاروتي: صاحب الرائعة المشهورة في رثاء الإمام الحسين، والتي يقول فيها:
اللراعبية بالأجرع
أم استوجدت وأتت مورداً
أجارتنا ليس دعوى الأسى
إليّ حمامة جرع الحمى
فإمّا استطعت حنيناً له
ودمعٌ إذا فار تنورهُ
.. وداعٍ دعاه إئتنا للهدى
ومن حوله تبّع إن دعا
كان النجوم بهم تهتدي
.. فيا راكباً ظهر مجدولةٍ
إذا لمعت نار طور الغري
وصلّ وسلّم وصلْ واستلم
وناد وقل يا زعيم الصفوف
.. أثرْ نقعها فحسين قضى
وقد وتَرَتهُ أكُفّ التّرات
إذا قعدَ الشمرُ في صدره
الشيخ يوسف أبو ذيب، ومن شعره:
.. كأني به والفيلقُ اللجبُ حوله
يعبّي بقلب ثابت الجاشِ جيشه
ويرمي بهم زج المغاوير غارة
مدججة تغشى الوغى فكأنّه
.. قضى بين اطراف الأسنّة والضبا
ومن حوله أبنا أبيه وصحبه
على الارض صرعى من كهول وفتيةٍ
مرمّلة الأجساد مثل أهلّةٍ
وتلك النساء الطاهرات كأنّها
يطفن على شمّ العرانين سادة
ويضربن بالأيدي النواصي تولّها
وتهوي مروعات بأروع أشمط
صبابة وجدٍ فلم تهجعِ
تمضمض منه ولم تجرعِ
بانْ تخضبي الكفّ أو تسجع
فليس الشجيّ كمن يدّعي
يلفّ الحنايا وإلاّ دَعي
دماً لم أقلْ يا جفوني أقلعي
ولم يكُ هيّابة إذ دُعي
فما حميرُ مَنْ دعا تُبع
إذا حلّها البدرُ في مطلعِ
شاتْ أربع الريح في أربع
فأنت بوادي طوى فاخلعِ
لقدس أبي الحسن الأنزعِ
ومركز دائرةِ الأجمعِ
وغلّة أحشاه لم تنقعِ
فأغرقت الرمي بالمنزعِ
فما لقعودكَ من موضعِ
وكل لهامٍ يقتفيهِ لهامُ
لخوض عباب شبّ فيه ضرامُ
كما زجّ من عوج القسيّ سهامُ
على الهولِ للحرب الضروس لحامُ
بحرّ حشا يذكي لظاه أوامُ
كمثلِ الأضاحي غالهنّ حمامُ
فرادى على حرّ الصفا وتوامُ
عراهنّ من مورِ الرياح جهامُ
قطا بين أجراع الطفوف هيامُ
قضوا وهمُ بيضُ الوجوه كرامُ
وأدمعها كالمعصرات سجامُ
طليق المحيّا إن تعبس عامُ
الشيخ محسن فرج، ومن قصائده:
لعمرك ما البعاد ولا الصدود
ولم يجر الدموع حداء حادٍ
ولكنْ أسبلَ العينين خطبُ
عشيّة بالطفوف بنو عليّ
تذادُ عن الفرات وويل قومٍ
ألا ويلُ الفرات ولا استهلّت
الشيخ علي بن حبيب التاروتي، ومن شعره:
سمعاً مهفهفة الهفوف من هجر
وذا الذي عطّر الآفاق فائحة
وصفحة الوجه تبدو منك مسفرةً
وذا الذي فوق متن الظهر منسدل
وهذه الوجنةُ الحمراء خدّك أم
يؤرّقني ولا ربع همودُ
ولا ذكرى ليال لا تعودُ
عظيمُ ليس يخلقه الجديدُ
عطاشاً لا يباح لها الورودُ
تذودهمُ اتعلمُ من تذودُ؟
على جنبيه بارقة رعودُ
أنغمة الصوت ذا أم رنّة الوترِ
ترديد نفسك ذا أم نفحة العطرِ
أم قرص شمس الضحى أم غرّة القمر
ستر الدّجى مرتخِ أم دجنة الشعر
نار بثلج فلا بدعاً من القَدَرِ
الشيخ علي نقي ابن الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي: قال يرثي ابنه حسن، وهو من أعزّ اولاده:
أبنيّ لا بكت العيون سواكا
فلقد بكيت بدمعة مهراقةٍ
ولقد بكيتك والعيون نواعس
قد كنتُ آمل أن تعيش لحادث
وتكون بعدي لليتيمة كافلاً
نصبَ المنون عليك أشراك الردى
سهمٌ أصابك لا رماك وليتما
.. إني وعيشك لا أعيش بفرحةٍ
ورثى زوجته ((نوار))، فقال:
.. نوارٌ لقد حلّت بتربك رحمة
نوار خذيها بالتحيّة واعلمي
سقى الله قبراً يا نوار إكتنفنه
وأردف قبراً ضمّ جسمك لحده
وأسكن قلبي بين جسمك والثرى
إذا متّ فادفني بجانب قبرها
.. أما والذي صلّى الإنام لوجهه
لقد خامرت قلبي فلم يبقَ موضعٌ
وقال في الفخر راداً على بعض أعراب نجد
إذا أفتخرت قومي بمجدٍ مؤثلٍ
.. لقد كانت الأنساب في جنب وائلٍ
فمن ذا يداني للمكارم غيرناً
أقول له كف الفخار فإنما
تفاخرُ قوماً كنتمُ أعبُداً لهم
فخلّوا سبيل المجد تنمى لأهلها
لبسنا من المجد الأثيل ملاحفاً
وقال في الفخر أيضا:
.. وإنّي أمرؤ لا ارتجي ذا خصاصةٍ
ولا أسأل الاسقاط فضل نوالهم
ولست بملاّقِ أُضاحكُ عابساً
وما أنا ركاب المفازةِ طالباً
.. سأنفق مالي ما حييت على العلا
أعفُ تقى حتى لقد ظُنّ أنني
وأسطو لدى الهيجاء إنْ شبٌ جمرها
وأحمي ذماراً شرّف الله أصله
أنا ابن أباة الضيم لا أحمل الأذى
وترادفت سحاً على مغناكا
تسقي من الدمع الملثّ ثراكا
أرق الجفون بمدمع يغشاكا
من بعد ما يغشى الحمام أباكا
تبكي أباها حسرةً فتراكا
في قبّة لم تنقشع بسواكا
أصمى فؤادي صائبٌ أخطاكا
من أجل موتك أو أرى لقياكا
تعطّر منها ساكن البرّ والبحر
بأن الليالي وصلها ليلة القدر
هو اطل غيث ضمّ قلبي من قبر
روافل مزن الغاديات مدى الدهر
يقي ناعماً عن ناعم الترب في القبر
لعلّ فؤادي يبرد اليوم من حرّ
وقامت له الأشياء بالنهي والأمر
تحلّ سواها فيه في عامر الدهر
ففخركم شغرٌ وحلب عشار
كمثل سراج في ضياء نهار
ومن ذا يداني غيركم لشنار
مفاخركم بين الأنام عواري
تباعون فيهم صفقة بخسار
ودونكم ذلاً بكلّ صغار
وإنّا عن العار الملم عواري
أتته الليالي فضل نائلها المرّ
فما الحرّ إلاّ أن يقال أخو الصبر
فما ذاك من خلقي وما بيَ من كبر
مطامعِ تستندي من المدح والشعر
فإن قلّ مالي كنتُ أنفقُ من صبري
نكولٌ إذا ما الأمر ضاق به صدري
كما الليث يسطو حين هيج في الخدر
بفعل المعالي والمكارم والفخر
ولو كان فيه مورد البيض والسمر
أصل الشيعة العرقي
سكن منطقة البحرين (القديمة) قبائل عربية عديدة قبل الإسلام، كالأزد الذين استقروا بكثافة في عمان، وأياد التي هاجرت من الحجاز، وقبائل تنوخ ـ وهي قبائل جاءت من تهامة وعقدت حلفاً فيما بينها على الاقامة (التنوخ) ـ .. غير ان قبائل ربيعة مثل (عبد القيس وبكر بن وائل) بمختلف افرعهما، أزاحت أياداً والأزد عنها وسيطرت على البحرين جميعاً، فكانت الواحات بيد أفرع من عبد القيس، ثم يليهم إلى الغرب بنو بكر بن وائل، وإلى غربيهم في البادية بنو تميم.
وقبل ان يدخل ان يدخل الإسلام إلى المنطقة، وبحكم غناها وثروتها واتصالاتها بالاقوام المختلفة لاجل التجارة.. سكن فيها عدد من العناصر غير العربية كالزطّ المجهولي النسب، والنبط، والسيابجة، وعدد محدود من الفرس الذين كانوا يحكمون المنطقة في جاهليتها.. إلا أن الغالبية كانت من عبد القيس العرب حينما ظهر الإسلام واعتنقه أهلها سلماً، فكانت المنطقة ثاني منطقة تدخل الإسلام بعد المدينة المنورة.
وتدفقت على المنطقة بعد ظهور الإسلام قبائل امتزجت بالسكان.. فسكنتها بطون من بي عامر، وبني كلاب وغيرهم.. وفي نفس الوقت هاجرت أعداد كبيرة من عبد القيس إلى العراق في العقد الثاني الهجري في خلافة عمر بن الخطاب، خاصة إلى البصرة والكوفة اللتين ابتنيتا حديثاً.. ولعلّ هذا ما يفسرّ الوجود الشيعي المكثّف فيهما والذي بدأ واضحا في أواخر خلافة عثمان بن عفان.
ان كثيرا من أسر الشيعة المتحضرة ـ وهي كلّها متحضرّة ـ ترجع في أصولها إلى هذه القبائل العربية، وإنْ كان المتحضرون في كل بلاد الدنيا لا يهتمون بالأنساب والاعتزاز بها.. وان العديد من سكان الأحساء والقطيف يعرفون أصولهم العرقيّة، رغم انهم لا يستطيعون إثبات هذا الانتماء بذكر إتصاله بفرع معروف من فروع إحدى القبائل المذكورة، ويعتبر الباحثون ان هذا الأمر طبيعي جداً، وهي أحدى صفات التحضّر والاستقرار .
وبعكس هذا نجد ان البدو يعتزّون بأنسابهم ويعرفون أصولهم، وكانت بادية الأحساء والقطيف تتلقّف الكثير منهم، وهم في اغلبهم سنّة يفدون من وسط وغرب وجنوب الجزيرة العربية، في حين كان السكان الحضر وعلى الدوام شيعة. كانوا البدو يفدون إلى مناطق الشرق، طمعاً في مراعيها المعشبة، وقرباً من مصادر الثراء والغنى والمياه والزراعة التي يقوم عليها الحضر.. وكان الخلاف بين البدو والحضر أمراً مألوفاً في كل الانحاء، ومن بينها الاحساء والقطيف، ولم يكن ذلك يعود لأسباب مذهبيّة، فالبدو كما يقول الباحثون هم من أبعد الناس عن روابط الدين فضلاً عن المذهب، ولكن لأسباب إجتماعية واقتصادية، وعادات تأصّلت في البدو.
تجدر الاشارة إلى ان كل قبيلة متى ضعفت، وزاحمتها قبيلة اخرى اقوى منها، فانها تعمد كلها أو بعض فروعها إلى احد ثلاثة أمور: إما الانضواء تحت سيطرة الأقوى، أو الهجرة إلى بلاد اخرى، أو الاستقرار في المدن والتحضر، فتترك البداوة، ويزول الاسم الا من بعض الافرع الضعيفة التي تنتسب اليها . ولذا فان الكثير من الاسر الشيعية تنتمي إلى قبائل ضعفت أو هزمت في حروب سابقة، ونخصّ بالذكر قبيلة بني خالد التي ينتمي أعداد غير قليلة من الشيعة اليها.. وكان بنو خالد قد ضعفوا بهزيمتهم على يد السعوديين مرة، وبظهور العجمان مرة اخرى، فاستقرت افرع منها في المنطقة وتحضّرت وتشيّعت واندمجت مع السكان.. كما ان بعض بني خالد هاجر إلى جنوب العراق وانضوى تحت قبائل اخرى، ولم يبق من القبيلة ـ في منتصف هذا القرن ـ سوى بضعة آلاف قليلة تعيش على هامش الحياة السياسية في المنطقة بعد ان كانت زعيمة البدو والحضر معاً.
إن الشيعة عرب في أصلهم، وهم قسمان: قسم ينتمي إلى القبائل العربية الاصلية القديمة التي كانت تقطن المنطقة قبل الإسلام (عبد القيس وبكر بن وائل)، وقسم ينتمي إلى أصول بدوية تحضّرت واعتنقت المذهب الشيعي، أو عوائل وفروع قبائل أغراها السكن والرفاه، فوفدت من مدن ومناطق مختلفة ـ خاصة من نجد ـ إلى الاحساء والقطيف واندمجت مع البقيّة وذابت عصبيتها.
معظم المصادر العربية والأجنبية تجمع على ان شيعة الاحساء والقطيف من ذوي الأصول العربية، وانهم سكان المنطقة الاصليين منذ قرون طويلة.
وبرزت في السنوات الأخيرة إدّعاءات تقول بأن الشيعة غير عرب، لأسباب طائفية وسياسيّة معروفة. وكانت مثل هذه الادعاءات قد راجت قبل أن تصبح البحرين أمارة مستقلة، حيث طالب الشاه الايراني المخلوع بها وكان العداء السياسي مع ايران الشاه، ومحاولة الاخيرة الادعاء بتمثيلها لكل الشيعة في البحرين بقسميهم العربي وهو الاكثرية، والأقلية ذات الاصول الاعجمية التي وفدت قبل قرون اثناء سيطرة فارس عليها.. كان هذا هو الذي دفع بالقليل من الكتاب إلى القول بأن الشيعة غير عرب، في حين تصدّى لهم آخرون وأثبتوا عروبة البحرين من خلال عروبة التشيّع والشيعة، وبالتالي عدم أحقيّة فارس في تمثيلهم.
ومن المعلوم والشائع في كتابات المؤرخين المعاصرة والغابرة، قولهم ان سكان البحرين (القديمة) هم من البحارنة الشيعة، وانهم دون غيرهم سكان هذه المنطقة الاصليين.
وبالنسبة لمنطقتي الاحساء والقطيف، فان احتكاكهما بفارس كان ضعيفاً، عدا التوافق المذهبي، ونزوح جماعات من الشيعة إلى أقاليم فارس المأهولة بالعرب على امتداد ساحل الخليج الشرقي، وبالخصوص إلى ما عرف سابقاً باسم إمارة ((عربستان)).. ولم يثبت المؤرخون، كما لم يعهد السكان الشيعة المحليون، أن عناصر فارسية استوطنت هذه المنطقة، بعكس مناطق الخليج الاخرى، حيث تتواجد أقليّات ايرانية شيعيّة وسنيّة في الامارات وقطر والكويت.
غير ان تصاعد الخلاف بين ايران بعد ثورتها على الشاه مع الحكومة السعودية، وعزف الاخيرة على الوتر القومي ـ الذي سبق لها ان حاربته بالعزف على الوتر الديني في العهد الناصري ـ هو الذي سوّغ لبعض الطائفيين الطعن في عروبة الشيعة وعروبة التشيّع أيضاً.
وهناك العديد من الطائفيين لا تظهر عروبتهم وهم يجدون الايرانيين ذوي الأصول السنيّة في مختلف دول الخليج، ولا يهتمون بالسلالات الصينية والاندونيسية والهندية والتركية والايرانية في الحجاز، ولم يحاول هؤلاء تجريد أولئك من حقوقهم الدينية، والوطنية بدعوى عدم عروبتهم.. ولكن عددا من هؤلاء الطائفيين ـ وبينهم مسؤولون في الدولة السعودية ـ لا يتورعون عن اتهام رعاياهم الشيعة بأنهم ايرانيون، يجب طردهم من البلاد!.. إن هؤلاء يتجاهلون حقيقة أن التشيّع والشيعة ليسا طارئين في هذه المنطقة، بل ان الطارئ هم غيرهم الذي لم يمض على بقائهم في مناطق الشيعة أقل من قرن من الزمان، كما يتجاهلون حقيقة ان معارضة الشيعة السياسية للحكومة السعودية قد أُلبست لباساً مذهبياً لأغراض معروفة للقاصي والداني.
إن الشيعة في المملكة، ورغم أنهم يتبعون المذهب الاثني عشري كالايرانيين والعراقيين واللبنانيين وغيرهم، الا أنهم عرب، وفي بعض الاحيان يسمّون بالبحارنة، نسبة إلى البحرين القديمة، دلالة على اصالتهم في هذه المنطقة، وهم عرقياً قريبون من الشيعة في البحرين .
ولا شك أن اصول الشيعة في البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة واحدة، فهم ينتمون جميعاً إلى القبائل العربية القديمة (عبد القيس بوجه خاص)، وتاريخ المنطقتين واحد إلى ان جاء الاستعمار البرتغالي، فانفصلت البحرين (أوال) عن (الخط وهجر)، كما هو ثابت لدى المؤرخين.
ويضاف إلى هذا فان العوائل في المنطقتين متقاربة نَسَبيّاً، رغم فواصل الحدود، وتكاد لا توجد عائلة في منطقتي الاحساء والقطيف ليس لها ارتباط أو صلة بعوائل في البحرين.. وواضح من التاريخ ان الهجرات بين المنطقتين تجري بسهولة، اما لأسباب اقتصادية، أو فراراً من الاضطهاد السياسي والمذهبي.. فحينما سيطر آل خليفة سنة 1783م على البحرين واحتلوها، امعنوا في الأهالي قتلاً وسحقاً، ففرّ هؤلاء الشيعة إلى الاحساء.. ويذكر كرستن نيبور أنه في منتصف القرن الثامن عشر كان في البحرين 365 قرية ومدينة، وبعد احتلال آل خليفة للبحرين بغزوهم لها من البرّ، اصبحت لا تحتوي الا على مدينة واحدة محصّنة، إلى جانب 40 ـ 50 قرية في حالة سيئة بسبب الحرب الطاحنة بين الغزاة والسكان الشيعة .
وبالعكس حدثت هجرات قويّة للشيعة من الاحساء والقطيف إلى البحرين في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، حينما سيطر الوهابيون على المنطقة، وحدثت هجرة مشابهة لتلك سنة 1913م / 1331هـ، وهي السنة التي احتلّ فيها الملك عبد العزيز ما يعرف اليوم باسم المنطقة الشرقية.. وتحفل دراسات المؤرخين بتأكيدات على ان الشيعة في البحرين ينقسمون إلى ثلاثة اقسام: الأصليون، والمهاجرون من الاحساء والقطيف، والايرانيون ـ وهم قلّة ـ .
وكما أشرنا فان الشيعة يسمّون بالبحارنة، وهي لفظة يطلقها الطائفيون للسخرية والانتقاص.. ومفرد البحارنة بحراني، وهي صيغة عربية صحيحة للانتساب، فكل من سكن البحرين (الاحساء والقطيف والبحرين الحالية) فهو بحراني، ولان كل البحارنة تقريباً هم من الشيعة، لذا اصبحت الكلمة مرادفة في المعنى للشيعي.. فالبحراني تعني الشيعي وتعني ساكن المنطقة الاصلي.. إلا انها تعطى بالنسبة للطائفيين معنى دونيّاً تمييزياً، فالبحراني الشيعي ابن المنطقة بالنسبة لهم، هو غير العربي (الذي يعني البدوي القبلي والسيّد المسيطر) .. الجدير بالذكر ان هناك العديد من التابعين ممن سكن المنطقة يلقبون بالبحراني، بل أن ابن المقرّب العيوني ـ الشاعر الفحل ـ ورغم محاولة الطائفيين إلغاء تشيّعه، فانه يلقب بالعيوني البحراني .
ويؤكد أحد الباحثين العرب في دراسته لأصول سكان منطقة الاحساء، بأنهم احفاد لقبائل عربية كانت تسود في الجزيرة العربية منذ اكثر من ثلاثة آلاف سنة .. إلا أن احد دعاة الطائفية عكس الآية فقال: ((والسنّة في الاقليم يرجعون إلى اصل عربي، وهم أحفاد العرب الأوائل الذين قطنوا هذا الاقليم منذ زمن بعيد.. اما الشيعة فيرجعون في اصولهم إلى اصل عجمي، والقليل منهم من اصل هندي)) !.. ولا ندري بماذا يفسّر الكاتب وجود أغلبيّة شيعية في هذه المنطقة إن كانت اعجمية أو هندية!!.
ومما يؤسف له ان الباحثين الاجانب عرفوا اصول الشيعة العربية بأكثر مما فهمها ويفهمها اولئك الذين يملي الحقد الطائفي عليهم في كتاباتهم.. قال احدهم بأن الشيعة هم عرب يعتنقون شكلاً من الإسلام يتضمن تبجيل القديسين ، وهو ان فهم اصل الشيعة، فانه لم يستوعب معتقدهم.
ويرد الدكتور الرميحي من الأقوال التي تورد ان شيعة البحرين غير عرب، ويعلّق على دراسة لاحدى الدانماركيات لقرية شيعية في البحرين، بأنها خلطت بين (البحارنة) و(العرب): ((ووصل بها الحدّ إلى أن تفتي بأن البحارنة غير العرب، فقالت: هم أنفسهم ـ أي البحارنة ـ يصرّون على أنهم غير عرب مثل الحاكم وعائلته.. إنهم يدعون انفسهم بحارنة)).. ويضيف الرميحي: ((لقد فشلت الكاتبة في أن تبين المعنى الواضح مما نقلته عن بعض سكان القرية، حيث أنهم يعرفون الشيعة بـ (البحارنة) والسنّة بـ (العرب). فلو سألت نفسها إذن من هم البحارنة لاستطاعت ان تتوصّل إلى انهم عرب أيضاً)) .
غير أن الدكتور الرميحي اعترف بصعوبة التعرّف على اصل الشيعة العرقي، واشتكى ان ما بين يديه من مراجع لم يسعفه في تحديد الاصول، مع هذا قال: ((اننا نميل إلى القول بأن الشيعة في البحرين ـ ويصدق ذلك على الاحساء والقطيف ـ من اصول عربية من العراق لان اللهجة التي يتكلمون بها تقارب اللهجة العربية السائدة في جنوب العراق)).
لا شكّ ان هناك صعوبة في التعرف على انساب الشيعة، ومرّد ذلك كما اشرنا إلى قوانين التحضّر والاستقرار، فهذه المنطقة عريقة في الحضارة، ومجتمع الحضر يذيب ـ في العادة ـ الأنساب والأصول، خاصة في التجمّعات الدينية التي لا تتفاخر بأنسابها، ونحسب ان منطقة البحرين بشكل اجمالي واحدة منها.. والذي ميّز المنطقة وبعض مناطق عمان عن نجد ومشيخات الخليج الاخرى، انها كانت متحضرة قبلها بمئات ـ أن لم نقل بآلاف السنين... فهذه المنتجات ما هي الا قبائل مترحلة في اغلبها إلى ان استقرّت قبل سنوات قليلة وتحوّلت إلى امارات.. والقبائل تحافظ على انسابها لأنه لا قيام لقبيلة الا بها.
فلا الدين عندها يجمع افرادها بأقوى مما يجمعها النسب، ولا روح الاخوة والإسلام تشدّهم كعصبيّة القبيلة. ولتحضّر هؤلاء المتأخر في نجد وقطر والكويت وبعض قبائل عمان والامارات، فان من الطبيعي انهم يعرفون انسابهم.
لكن هل يمكن معرفة انساب سكان دمشق أو القاهرة أو بغداد؟!.. ان المسألة تبدو في غاية الصعوبة، وبالنسبة للشيعة فانها تبدو اكثر اغراقا في الصعوبات، لخصوصية في المذهب الشيعي الذي لا يحفل بالقوميات اكثر من أي مذهب اسلامي اخر.
ومع أن هناك الكثير من العوائل النجدية والقبلية الاخرى استوطنت الاحساء قبل حوالي ثلاثة قرون واعتنقت المذهب الشيعي، الا ان معظم افرادها لا يدركون اصولهم العرقية ولا انتماءاتهم المذهبية السابقة، الا قلّة من رجالهم المعمرين في السن.
وهناك مسألة اخرى، وتتعلق بصعوبة التعرّف على اصول السكان من خلال اللهجات.. صحيح ان الشيعة في البحرين والمنطقة الشرقية في المملكة تأثرت لهجتهم باللهجة العراقية، نظراً للتداخل المذهبي، وباعتبار ان العراق كان مهوى العلم والعلماء، وان معظم علماء الشيعة في هذه المناطق درسوا في تلك البقاع، وان معظم الشيعة يزورون الاماكن المقدسة الدينية.. قد تكون هذه اسباب تأثر لهجة الشيعة في الخليج باللهجة العراقية، لكن الاختلاف بينها واسع بيّن.
قد تكون لهجة الشيعة في المنطقة غريبة على مسامع السكان البدو الوافدين، تماماً مثلما هي لهجتهم غريبة على اسماع السكان الاصليين، فهل يصحّ ان يقيّم البدوي الوافد لهجة السكان الاصليين ويقرّر أنهم ـ وبحكم اقتراب لهجتهم بلهجة سكان آخرين ـ أنهم من اصل مشترك، أو وافدين من ذلك البلد؟!
ومع وضوح عروبة سكان المنطقة، فانك تجد من يعرّف كلمة (البحراني) بصورة خاطئة متعمّدة، فيقول بأن شيعة البحرين والقطيف والهفوف ينطقون باللغة العربية(!).. واستكثر عليهم ان يصفهم بالعرب، أو ان يقول بأن لغتهم هي العربية، وأنهم لا يجيدون غيرها.. ثم اشار بتفاخر إلى ان السنّة في الاحساء يطلقون لقب البحراني على كلّ شيعي .
أماكن تواجد الشيعة وعوائلهم وشخصياتهم
يسكن الشيعة الاثنا عشرية (الإمامية) في مدن وقرى المنطقة الشرقية، اضافة إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة.. يقول الدكتور عبد الله الحامد: ((لا يوجد في كل الاقاليم ـ في المملكة ـ دين غير الإسلام.. والإماميون في مكة والمدينة، ويتكاثرون في الاحساء والقطيف. والقطيف خاصّة كل سكانها من الشيعة)) ، فيما يتمركز الاسماعيليون جنوب المملكة (نجران وقراها)، وتوجد اقليّات شيعيّة (زيدية وإماميّة) في مدن وقرى مختلفة من المملكة.
كتاب الشيعة في المملكة العربية السعودية
تأليف / حمزة الحسن